هناك أمور تديرنا لدرجة تجميد وظيفة عقولنا، واليد الخفية مصطلح أطلقه آدم سميث حين يتحرك الاقتصاد بدوافع ذاتية تفوق قدرات صناع القرار والقادة بوصفهم أفراداً أو عقولاً مدبرة، ولو بلغت عجلة الحركة الاقتصادية درجة التحرك الذاتي، فهذه هي اليد الخفية التي تطلق حركة السوق، فيزدهر الاقتصاد وينمو، وهذه قمة الرأسمالية التي تجعل رأس المال يهيمن على كل المجريات، وهذا أمر حدث حقاً وواقعاً في اقتصاديات السوق الحرة، وكأن يداً خفيةً تحرك السوق متحررةً من سلطة المؤسسة، فيربح في السوق الشجعان والمغامرون وصيادو الفرص ويسقط من يضع الحسابات ويترقب الخواتم قبل أن يتحرك، وهذا أمر لا يقتصر على حركة رأس المال كما تمناها آدم سميث فحسب، بل إنه يحدث في كل شأن عقلاني، حيث تقع العقلانية تحت سلطة اليد الخفية من حيث إن العقل يخضع للظروف والصروف بكل أنواعها ومفاجآتها، حسب المقولة الشائعة عن التي تجعل الحكيم حيران، وكم من أمر جلل وقع في تواريخ البشر يتكشف عنه أن العقول تعطلت في فترة أو فترات حتى ضاعت البصيرة.
وتجارب الأمم مع الحروب الأهلية تحديداً تشير إلى لحظات تاريخية بشرية يفقد الناس فيها عقولهم ويتصرفون وكأنهم بلا عقول تصديقاً لقول عمرو بن كلثوم «ألا لا يجهلن أحدٌ علينا/ فنجهل فوق جهل الجاهلينا» أو كلمة «قربا مربط النعامة مني» في قصة الحارث في ملحمة حرب البسوس، وفي جملته الحارقة: «ما أنا من جناتها علم الله/ وإني بحرها اليوم صالِ»، وهذه الحرقة تكشف حال غياب العقل والتحول للجنون لأن أمراً جللاً حدث فغابت معه قدرات العقل بحيث يحل الغضب الأعمى محل التفكر، ولو أعدنا قراءة الحروب الكبرى في تاريخ البشرية لكشفنا كم من يد خفية لعبت من وراء الأحداث ليس بالتجسس والمكائد فحسب، بل أيضاً بالأخطاء التي يرتكبها كل طرف في رد فعل له غاضبٍ أو خائف أو متربص، وما بين الغضب والخوف والتربص تصدر تصرفات لا تدركها العقول إلا بعد فوات الأوان ومن طبع العقل أنه باردٌ وبطيء ومتردد، بينما الوقائع سريعةٌ وحادة وتتطلب تصرفاً سريعاً، وتلعب الظروف أدواراً تفوق قدرات العقول، وهذه خلاصة تفسر كثيراً من الجنون البشري، خاصةً في حالاته الكبرى، ومن الواضح أن أخطر حروب البشر وقعت في أهم الدول تقدماً وتحضراً مثل الحربين العالميتين الأولى والثانية، وكذلك فقنبلة هيروشيما وقعت بأمر من رجل منتخب ديمقراطياً وباسم وبشعار الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، وكان ترومان قد صرح قبل حدوث الحرب قائلاً باستحالة استخدام أسلحة الدمار الشامل وما لبث أن استخدمها في لحظة لا يمكن تفسيرها بالعقلانية، وكأن يداً خفيةً حركته كما حركت الحارث وجعلته يعتلي صهوة النعامة، ونعامة ترومان كانت قنبلة دمرت مالاً يحصى من البشر والبيئة والضمائر.
هكذا هي الحال البشرية إذ تقف العقول دون بلوغ عقلانيتها وتتحول لتوحش مجنون يصعب تفسيره لدرجة أنه يعجز أن يتحول لدرسٍ يتعلم منه البشر، ولذا يظلون يكررون جنونهم كل فترة وأخرى، وآخر جنون أوروبا وأميركا هي حرب أوكرانيا كما شهدناها لحظةً بلحظة، وشهدنا غياب العقل عن ذوي العقول.