لم تكن خلافات عزيز المصرى مع الملك الحسين ومع الإنجليز سببًا وحيداً فى نفيه إلى إسبانيا ليلحق هناك بأمير الشعراء أحمد شوقى وليرتبط به مصيره للمرة الثالثة.
تواصل «عزيز» مع القوى الوطنية فى الداخل وخاصة قيادات الحزب الوطنى الذى كان يديره ويحركه محمد فريد من منفاه فى الأستانة، كما أقلقهم اتصاله بسعد زغلول وأحمد لطفى السيد، لذلك كان قرار النفى إلى إسبانيا جزاءً لـ«المصرى» عن مجمل نشاطاته واجتماعاته فى هذه المرحلة.
كان الإنجليز فى هذه المرحلة يخافون من أى تعاطف شعبى مع الدولة العثمانية.
وفى هذه الفترة حاولت الدولة العثمانية العودة إلى مصر واحتلالها من ناحية قناة السويس لكن حملتهم فشلت.
ومع تعرض السلطان حسين كامل- الذى كان قد حصل على منصبه من الإنجليز، مع إعلان الحماية والاستقلال عن الدولة العثمانية- إلى محاولة اغتيال زادت عمليات القمع والتنكيل والنفى.
أراد الإنجليز استغلال أجواء الحرب العالمية الأولى وحكم قبضتهم على البلاد تمامًا، فزادت الرقابة على الصحف.
كانت المقالات والأخبار التى يسطرها سياسيون أو صحفيون محسوبون على الحزب الوطنى أو التيار المستقل بشكل عام كفيلة بمصادرة العدد أو إغلاق الصحيفة تمامًا.
بدأت عمليات اعتقال واسعة فى صفوف السياسيين، وبجانب هذا بدأت عمليات طرد بالجملة لكثير من الشخصيات التى كانوا يرون أنها مثيرة للفتن من جانب، أو أنها تؤيد عودة الحكم التركى إلى البلاد من جانب آخر، بالإضافة إلى أعوان الخديو السابق عباس حلمى الثانى، الذين كانوا يروجون لعودة حكمه.
كان أمير الشعراء أحمد شوقى على رأس الذين تم نفيهم إلى إسبانيا.
رحل شوقى وزوجته وأولاده إلى السويس ومن هناك استقلوا باخرة عبرت بهم القناة إلى بورسعيد ثم إلى المنفى.
.
لم يكن عزيز المصرى يعلم فى ذلك الوقت أن الأيام والأقدار سوف تجعله يلحق بشوقى مطروداً من مصر إلى منفاه.
قابلت عزيز صعوبة بالغة فى تدبير المال الذى سوف يستعين به على الحياة فى منفاه الجديد.
يقول المصرى فى حواره مع محمد عبدالحميد ضمن كتابه أبوالثائرين: «لم أكن أملك سوى منزلى فى منطقة عين شمس بالقاهرة ولم أفلح فى بيع بعض الأفدنة من الحديقة وذهبت إلى شقيقتى وابنها يوسف باشا ذوالفقار وكتبت لها تنازلاً عن البيت والحديقة لأنى خشيت أن يصادرها الإنجليز.
ولقد كان هذا التنازل سببًا فى الكثير من المشاكل العائلية والقضائية بعد ذلك بسنوات بعد عودتى إلى القاهرة بعد قرابة تسع سنوات أو ربما أقل من ذلك».
ركبت الباخرة التى كانت سوف تنقلنى إلى مرسيليا، ولقد قضيت أيامًا أفكر فى الإنجليز الذين أحالوا حياة العرب بوجه عام إلى سلسلة من المآسى، وحياة المصريين بوجه خاص إلى سجن كبير، وآمنت تمامًا أن منطقة الشرق الأوسط مقبلة على التقسيم بين الإنجليز وأيضًا الفرنسيين.
ورميت بكل اللوم على العثمانيين الذين أضاعوا البلاد التى كانوا يمتلكونها فى غرب أوروبا بسبب الجهل والمؤامرات والدسائس.
كنت من المؤمنين تمامًا بأن العثمانيين لو كانوا اتخذوا اللغة العربية لغة رسمية فى تلك البلاد لتغير الحال وأصبحت المساحات جزءًا من الأمة الإسلامية، ولزاد التوسع تجاه الغرب، ويكفى أن الأتراك عندما تركوا يوغسلافيا كان بها قرابة 300 مسجد وذلك بخلاف عشرات المساجد فى البلاد الأخرى.
ولو كان استمر التعاون بين الألمان والأتراك بدون الحرب العالمية الأولى لسطع نور الحضارة الإسلامية على ربوع أوروبا كلها.
ولكانت لنا عودة بطريقة أو بأخرى إلى بلاد الأندلس التى ضاعت بسبب الخلاف بين أمراء العرب.
وصلت إلى ميناء مرسيليا، وكان هذا النزول إجباريًا ومن هناك ركبت القطار إلى مدريد عاصمة إسبانيا ثم ذهبت إلى برشلونة.
كانت سعادتى لا توصف عندما التقيت بأمير الشعراء أحمد شوقى أستاذى الذى أحببته وكان السبب المباشر فى التوسط عند أختى الكبرى وزوجها لدخولى الكلية الحربية فى تركيا، وحكى له أن الإنجليز نفوه إلى هنا خوفًا من شعره الوطنى الحماسى الذى اعتبروه وقوداً للثورة فى مصر ضدهم إذا استمر وجوده هناك، ومن أجمل ما كتب أمير الشعراء وهو فى منفاه قصيدة مطلعها:
يا ساكنى مصر إنا لا نزال عـلى ■ ■ عهد الوفاء وإن غبنا مقيمينا
هلا بعثـــــــتم لنا من ماء نهركمُ ■ ■ شيئا نبل به أحــشاء صادينا
كل المناهل بعد النـــــــــيل آسنة ■ ■ ما أبعد النيل إلا من أمانيــنا.
هذه الأبيات وغيرها أرسلها شوقى إلى شاعر النيل حافظ إبراهيم الذى رد عليه بهذه الأبيات:
عجبت للنيل يــــــدرى أن بلبله ■ ■ صادٍ ويسـقى ربى مصرٍ ويسقينا
والله ما طاب للأصحاب مـورده ■ ■ ولا ارتضوا بعدكم من عيشه ليـنا
وينقل محمد عبدالحميد عن عزيز المصرى قوله: وجدت فى الشاعر أحمد شوقى خير رفيق فى غربتى، ووجدت عنده ما يعزينى ويؤنس وحدتى فى غربتى، حكيت له قصة حياتى كلها خلال السنوات الماضية، ووجدت فيه آذانًا مصغية لأحلامى التى كانت تستقر فى أعماقى ورأسى وكيف ذابت هذه الأحلام وتلاشت، وكيف أن العرب سوف يقاسون مرارة الاحتلال لأعوام طويلة.
حكى عزيز قصته الأخيرة مع الإنجليز وكيف أنهم راقبوه بشدة بعد منع الخديو عباس من العودة إلى مصر لأنه كان فى صف المصريين ولم يكن محببًا للإنجليز.
وباعتبار أحمد شوقى من العاملين فى قصر الخديو ومن المقربين إليه خافوا تأثيره على الناس، وخشوا تأثير شعره الحماسى ليس فى مصر وحدها ولكن على مستوى البلاد العربية.
فى برشلونة نزل عزيز المصرى فى بيت قديم اختاره له أحمد شوقى بعد أن غادر الفندق، ولم يمر عليهما فى برشلونة سوى شهر واحد حتى أخبر «عزيز» شوقى بضرورة أن يتجولا فى إسبانيا وترك برشلونة حتى يستمتعا معًا برؤية الآثار الباقية من الأندلس.
يقول «عزيز»: وجدت أن هذه الفكرة لها صداها فى نفس «شوقى» وكان قرارنا الذهاب إلى مدريد.
.
عمل عزيز فى التدريس ليكتسب ما يعول به نفسه.
ولاحظ الإسبانيون الذين عاش معهم، ما عليه هذا الرجل من خلق عظيم وسماحة نفس فى محنته هذه، فكان محل تقدير وإعزاز.
وما إن انتهت الحرب حتى سافر إلى ألمانيا، وهناك عرض عليه أن يعمل مدرسًا فى كلية أركان الحرب الألمانية فقبل هذه المهمة بصدر رحب، وبامتنان.
وقبل الوصول إلى ألمانيا أنقل عنه ما قاله عن هذه المحطة أمير الشعراء لما لاحظ حماسه البالغ للألمان فى «مدريد» طلب الاتصال بهم عن طريق سفارتهم وقال لى: حاول الاتصال بهم، وأخبرهم برغبتك فى المشاركة فى الحرب معهم خاصة أنك تعرف جيداً جميع البلاد والمناطق التى يمكن أن تساهم فيها والتى يرون وجودك مناسبا فيها.
يقول «عزيز»: ذهبت إلى السفارة الألمانية فى مدريد، وطلبت مقابلة السفير الألمانى، لكن أحد موظفى السفارة أخبرنى بالحضور فى اليوم التالى، وكتب لى اسم أحد موظفى السفارة لمقابلته، وشعرت بضيق كبير لسوء الاستقبال.
وفى اليوم التالى ذهبت إلى السفارة وقابلت الموظف الذى اختاروه وكان فظًا متعجرفًا إلى أبعد الحدود.
كنت قد كتبت مذكرة أعرض فيها خدماتى للعمل بالجيش الألمانى مع نبذة مختصرة عن خبراتى والميادين التى عملت بها وأسماء الضباط الألمان الذين عملت معهم.
.
وقصتى مع الإنجليز وما فعلوه معى حتى طردى من مصر منفيًا إلى إسبانيا.
حتى هذا الوقت كان معى قرابة الـ 250 جنيهًا هى كل ما أملك.
.
وكنت قد اتفقت مع الشاعر أحمد شوقى أن نبدأ جولة على آثار الأندلس القديمة، بعد انتهاء الرحلة عاد عزيز إلى مدريد واختار للإقامة بنسيونًا بسيطًا، وتعرف خلال هذه المرحلة على الدكتور الألمانى بد ستشر ودارت بينهما مناقشات طويلة عن الحرب وألمانيا وفرصها فى الحرب العالمية.
فى هذه الأثناء وعند خروجه من البنسيون جاء البوليس الإسبانى لتفتيش غرفته.
.
وطلبت منه إدارة الفندق وكذلك أصدقاؤه عدم العودة إلى هناك، وأحضروا ملابسه، إلى أطراف مدريد.
وركب سيارة ولم يكن يملك حينئذ سوى سبعة جنيهات إنجليزية.
فى إحدى المكتبات التى تهتم بالمخطوطات العربية تعرف على قسيس طويل القامة والذى قال له بهدوء شديد: «هل تقرأ العربية؟».
.
فقلت له إننى عربى مصرى أجيد اللغة العربية بالطبع.
عرض القسيس وظيفة براتب جيد لمدة شهر كامل وذلك للقيام بترجمة أكثر من كتاب للغة العربية.
كما يقول عزيز المصرى لمحمد عبدالحميد: «ضمنت الإقامة فى الدير وطعاماً مجانياً طوال الشهر.
.
عشت فى الدير وأطلقت لحيتى وشاربى وشعرى.
.
وأطلق القسيس علىّ اسم (خنتو) ولا أدرى حتى الآن لماذا اختار لى هذا الاسم الغريب».